اسحب

قصص ملهمة

ثريا امرأة أزهرت في الخريف

في نفس الفترة التي أدركت فيها امرأة عدنية في النصف الثاني من العقد الخامس من العمر تدعى ثريا فضل أن حياتها وحياة أسرتها بدأت تتغير أخيرا، كان كل شيء حولها سواء يمكنها ملاحظته أو لا يتغير أيضا. أوراق الأشجار التي كانت قد اكتسبت ألوان صفراء أو برتقالية منذ فترة قصيرة بدأت تتساقط، درجة حرارة الجو تنخفض تدريجيًا، بعض أنواع الطيور التي كان من المعتاد مشاهدتها في الجوار تهاجر في اسراب، السماء تصبح أكثر صفاء من ذي قبل، وحتى الليل والنهار -على غير عادتهما في الأشهر الأخيرة- تقدم موعد قدوم الأول وأصبح أطول وصار الثاني يغادر مبكرا ويصبح أقصر نتيجة لميل محور الأرض أثناء دورانها حول الشمس. كل الدلائل تشير إلى أن فصل الخريف بدأ للتو، وعلى الرغم من أن كل ما يحدث كان أمرا طبيعيا يتكرر كل عام، إلا أن ثريا التي اعتقدت لسنوات عدة أن معجزة وحدها فيما لو حدثت قادرة على إحداث هذا التغيير ونقل مصيرهم الذي كان يبدو لها وكأنه قدر حتمي إلى المرحلة التي دلفتها للتو، أخذت المسألة كإشارة وفأل حسن. اليوم بعد مرور ما يقارب عام يمكن القول إن المرأة كانت على حق تقريبا.

مع قدوم خريف 2021، كانت الحرب في اليمن التي اندلعت في سبتمبر أيلول 2014 والمستمرة حتى اليوم تدخل عامها الثامن. وفي العادة يكون سبتمبر شهر حصاد، لكن مئات ملايين اليمنيين ومن ضمنهم ثريا وأسرتها لم يعودوا يحصدون سوى الخيبات منذ مدة طويلة. "منذ 8 سنوات لم يعد لدينا أي دخل ولولا الإغاثة الإنسانية لكن ربما في اعداد الموتى الآن" بهذه الكلمات المباشرة وصفت ثريا هول وفداحة ما يجري. بنبرة صوت بدت وكأنها لا تحمل مشاعر معينة، تحدثت ثريا عن فصلين من حياة أسرتها، الأول من الصعب على من لم يعرف شيء عن "الحرب المنسية" في اليمن أن يصدق أنه ليس فصلا من فيلم خيالي بل واقع لا يزال ملايين اليمنيين يعيشونه، والثاني فصل عودة الأمل، وهو فصل بدأ قبل أقل من عام، تحديد، عندما تم قبولها في برنامج يهدف لتأمين حياة كريمة لأسر صغار الصيادين التي تضررت بشدة بفعل الأزمة والصراع في اليمن.

قبل 46 عام ولدت ثريا لأسرة صغيرة تسكن في البريقة بمدينة عدن، والدها الذي كان موظفا حكوميا حينها ورث من والده مهنة صيد الأسماك، ولكن هذه المهنة التي أحبها ولا يزال، لم يأخذها على محمل الجد في البداية، كانت الوظيفة هي مجال اهتمامه الأساسي لذا لم يكن مضطرا لشراء كل المعدات التي يحتاجها الصياد. عندما سرح من وظيفته قبل ما يقارب 3 عقود أصبح البحر مصدر رزقه الأساسي. لم تحظى ثريا بوقت أطول من خمس سنوات في المدرسة التي وجدت نفسها مجبرة على تركها بسبب مرض أمها والحالة المادية الصعبة للأسرة. تزوجت لاحقا وخلفت 4 أطفال، وعلى الرغم من أن وضعها لم يختلف بعد الزواج، إلا أن الحزن الذي رافقها منذ الطفولة، جعلها تحافظ على الوعد الذي قطعته لنفسها آنذاك بتعليم اطفالها، وحتى عندما لم تكن الأسرة تعلم كيف ستتدبر أمر وجبة اليوم التالي كانت حريصة على أن لا يترك ابناءها المدرسة.

بمجرد أن اندلعت الحرب أصبح زوج ثريا- وهو المعيل الأساسي للأسرة وكان يعمل بالأجر اليومي- غير قادر على إيجاد عمل مستقر. في تلك الفترة أنظم للأسرة فردين جديدين. كانت والدتها قد توفقت قبل سنوات، وفي وضع صعب كهذا انتقل والدها وشقيقها للعيش معها في المنزل الذي تسكنه الأسرة وتعود ملكيته لمجموعة من الورثة بينهم زوجها، لكن وجودهما كان عاملا مساعدا، ذلك أنه كان لا يزال لديهما بعض معدات الصيد وكانوا مع مجموعة من الصيادين يستأجرون قارب ويكسبون رزقهم.

عاشت ثريا وأسرتها حياة كانت تزداد صعوبة وقساوة بمرور الوقت، إلى أن جاء يوم وتغير كل شيء، وكان لها الفضل الأكبر في ذلك. في سياق مواجهة تداعيات الأزمة الإنسانية في اليمن أطلقت مؤسسة تنمية القيادات الشابة في أغسطس 2021 وبالشراكة مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي وبتمويل من الحكومة اليابانية مشروع إنعاش سبل كسب العيش وبناء قدرات صغار الصيادين من أرباب الأسر التي تعطلت سبل عيشها بشدة للتكيف مع آثار الصراع المستمر خلال تأثير جائحة وباء كورونا المستجد في محافظتي عدن وحضرموت. كانت ثريا إحدى 69 إمرأة وفتاة من عدن حصلن على دورات تدريبية ومساعدات إستشارية وفنية من مختصين في تطوير المشاريع الصغيرة وتلقين منح مالية قدرها 950 دولار لبدء مشاريعهن. ولأن لديها خبرة كافية في إعداد البخور وأنواع أخرى من أنواع الطيب، وجدت أنه من الممكن أن تضرب عصفورين بحجر واحد، ذلك أن أغلب المواد الأولية التي تدخل في اعداد هذه المنتجات تستخرج من البحر. "أغلب مبلغ المنحة التي حصلت عليها اشتريت به قارب وما تبقى اشتريت به الأدوات اللزمة للعمل" تقول وهي تشرح كيف ساعدت والدها وشقيقها في مواصلة ممارسة مهنة الصيد، وفي نفس الوقت بدأت مشروعها، ذلك أنهما صارا أيضا يوفران لها المواد الأولية لمنتجاتها.

"هذا أفضل عام عشناه منذ مدة طويلة" تقول ثريا:"هذا المشروع علمنا كيف نبني سبل عيش لا تنقطع، لكن الأهم أن التدريبات التي تلقيناها علمتنا كيف نطور طموحنا، وأعطى المدربين لنا أمل بأنه ممكن نكون ناس مؤثرين لا نحتاج لأحد أن نؤمن حياتنا بأنفسنا". ملطع العام الحالي 2022 كانت ثريا قد أسست مشروعها بالكامل وبدأت تبيع بعض المنتجات، وفي بازار نظمته مؤسسة تنمية القيادات الشابة مطلع فبراير من أجل مساعدة كل النساء المستهدفات للترويج لمشاريعهن قالت ثريا أنها باعت منتجات بقيمة 100 الف ريال، وبعد شهرين -أي خلال موسم عيد الفطر- كانت تبيع كل يوم بمبالغ ممتاز، على سبيل المثال تعدى دخلها في يوم واحد مبلغ 300 الف ريال (حوالي 300 دولار).

"أصبحت امرأة مختلفة الآن، وهذا المشروع جعلني في موضع اشعر فيه بأهميتي أيضا" تقول ثريا وهي تشرح تأثير مشروعها الصغيرة عليها شخصيا، أما عن المستقبل فتقول: "المستقبل الذي فقدته اريد أن أرى اطفالي يحققوه، لذلك تعليمهم هو الأهم، هم أذكياء، وأريدهم أن يدرسوا الجامعة في أفضل الجامعات في العالم، وهذا هدفي الأساسي".